هجرة الشركات: عاصفة هجرة الشركات من ولاية ديلاوير إلى ولاية تكساس

Corporate Migration - هجرة الشركات

Corporate Migration – هجرة الشركات

الاستثمار لا يحتاج إلى تخفيضات ضريبية بقدر ما يحتاج إلى وضوح التشريعات واحتراف القضاء

خلال الشهور الأولى من عام 2025، تصاعد الجدل داخل الأوساط القانونية والاقتصادية الأمريكية حول ما بات يُعرف إعلاميًا بـ”DExit” وهو المصطلح الذي يعكس موجة خروج العديد من الشركات الأمريكية الكبرى من ولاية ديلاوير الأمريكية كمقر قانوني إلى ولاية تكساس (هجرة الشركات). ما أثار هذا الحراك كان سلسلة من الأحكام القضائية الصادرة عن محكمة ديلاوير الشهيرة، كان أبرزها حكم المحكمة في قضية Tesla، والذي ألغى حزمة المكافآت المليارية التي منحت لإيلون ماسك بحجة إخلالها بمعايير العدالة الكاملة (Entire Fairness).

هنا بدأت العقدة؛ الشركات الكبرى رأت أن القضاء في ديلاوير بدأ يتجه لمزيد من الرقابة المتشددة على قرارات مجالس الإدارة، بل وصل الأمر إلى التشكيك في الحوافز الممنوحة للقيادات التنفيذية العليا، رغم اتخاذ هذه القرارات وفق آليات التصويت المقررة في أنظمة الشركات. ولولا هذا الاتجاه، لكانت ولاية ديلاوير بقيت مستقرة كمقر لمعظم الشركات الكبرى كما كانت منذ عقود.

المشهد تغير بعد أن تحولت الرقابة القضائية إلى عامل قلق استراتيجي، دفع العديد من الشركات للبحث عن ملاذ قانوني أكثر مرونة، فوجدته في ولاية تكساس.

ولاية تكساس: لماذا نجحت؟

ولاية تكساس لم تكن غريبة عن عالم الأعمال، لكنها خلال السنوات القليلة الماضية خطت خطوات محسوبة لتحويل نفسها إلى مركز قانوني منافس لولاية ديلاوير. التشريعات التي تبنتها تكساس لم تترك ثغرة لم تعالجها؛ فقد سنت قوانين جديدة تلائم هوى المستثمرين الغاضبين من شقيقتها ديلاوير؛ حيث أقرت مبدأ “حكم الإدارة – Administrative Deference” في صلب الحماية القانونية لمجالس الإدارة، بما يحول دون الطعن السهل في قراراتهم طالما تم اتخاذها بحسن نية ووفق معايير منطقية. لم يكن هذا هو كل شيء، بل أُنشئت محكمة تجارية متخصصة للنظر في نزاعات الشركات، مع منحها صلاحية إصدار آراء استشارية مسبقة — وهو تطور نوعي في النظام القضائي التجاري الأمريكي، يعطي الشركات فرصة لتحصين ممارساتها قبل الدخول في النزاع القضائي وحتى قبل اقدامها على أي من معاملاتها التجارية او التنظيمية.

وبينما عُرفت ديلاوير تاريخيًا بسرعة الفصل في القضايا وبكفاءة محكمة Chancery التي تعمل دون هيئة محلفين لديها (للإشارة هي محكمة قائمة على مبادئ العدالة المجردة والأمر اشبه لدينا في الأردن على نطاق ضيق بجلسات التحكيم التي يجريها شيوخ وكبار التجار للفصل في النزاعات بين التجار من اهل الصنعة الواحدة بعيداً عن أروقة المحاكم)، إلا أن هذه المحكمة باتت مؤخراً تصدر قرارات تُشعر الشركات أن الخط الفاصل بين الرقابة الحميدة والتدخل في الإدارة أصبح باهتًا. ولهذا كان الانتقال إلى تكساس -بالنسبة للشركات- يبدو خيارًا عقلانيًا في سياق حماية الاستقرار القانوني لمراكز الإدارة.

النصوص التشريعية الجديدة في ولاية تكساس لم تكن عائمة، بل صيغت بعبارات صريحة مثل: “تُفترض صحة قرارات مجلس الإدارة مالم يثبت المدعي سوء النية أو التواطؤ أو الإثراء غير المشروع بشكل مؤكد.”

إضافة إلى نصوص أخرى قللت من قدرة المساهمين الصغار على رفع دعاوى عبثية دون إثبات حد أدنى من ملكية الأسهم أو تقديم مصلحة جوهرية للشركة. وحتى لا يساء الفهم، فإن مبدأ حكم الإدارة المطلق الذي كان مقراً سابقاً تحت مسمى (Chevron Deference) أتت محاكم تكساس على تغيير جوهري له بما يضمن حدوداً منطقية من التعامل والتحليل بالنسبة لقرارات الإدارة فيما بات يعرف حالياً بمسمى (Texas Deference)، وقد أعرب القضاء في تلك الولاية عن هذا المصطلح الجديد المتعلق بحكم الإدارة كما يلي:

“Courts must defer to an administrative agency’s interpretation of statutes it is charged with enforcing, provided the interpretation is reasonable and consistent with the statute’s language and purpose. This deference recognizes the agency’s expertise and its role in implementing the legislative will.”

 

البيئة القانونية الأردنية، أين نحن؟

بينما تتطور وتتنافس البيئات القانونية للولايات الأمريكية في خلق بنية متكاملة لحماية الشركات ومجالس إدارتها، يقف الأردن في مرحلة وسطى بين التنظيم والتطبيق.

نظام التقاضي التجاري في الأردن لا يزال مندرجًا ضمن القضاء العام، عبر ما يعرف بـ”الغرفة الاقتصادية” المشكلة بموجب قانون تشكيل المحاكم. ورغم أن هذه الغرفة خُصصت للنظر في القضايا الاقتصادية والتجارية، إلا أن دورها لا يزال محدودًا من حيث التخصص والفعالية، خصوصًا مع بطء الإجراءات ونقص الخبرات المتخصصة في منازعات الشركات المعقدة.

لا يملك النظام الأردني حتى الآن إطارًا صريحًا يُعطي الشركات الحق في طلب آراء قضائية استشارية قبل الدخول في المنازعات او الضلوع في المعاملات التجارية الهامة. كما أن حماية أعضاء مجالس الإدارة من الدعاوى الكيدية لا تزال خاضعة للقاعدة العامة في القانون المدني (والتي اكاد اجزم بحدود اطلاعي ان لا احكام قضائية أردنية قد صدرت حيال أي من هذه الحالات). وهنا يبقى الحديث عن أن المشرع الأردن ترك سلطات مجالس الادارة دون نصوص خاصة تمنحهم حماية واضحة عند ممارسة أعمالهم واتخاذ قراراتهم الإدارية والتجارية بحسن نية.

الآراء القانونية الاسترشادية التي كانت تصدرها بعض مؤسسات الدولة سابقاً لم تعد موجودة، وأضحى الموظف يخشى الادلاء بأي رأي سابق، فيشعر المستثمر بالضياع وأن هنالك من يترصد له.

الأكثر من ذلك هو الدور المُتسع لهيئة النزاهة ومكافحة الفساد اتجاه الشركات المساهمة العامة، هذا الدور على أهميته في حماية المُقدرات وأقلية المساهمين، إلا انه أوحى للبعض الاخر من المساهمين بتجربة مشابهة لتجربة ديلاوير، وبات الأردن بيئة طاردة لاستثمارات الشركات المساهمة العامة لصالح بعض دول الجوار.

كيف نبدأ في منع هجرة الشركات من الأردن؟

لا يمكن للأردن أن ينافس بيئات مثل ولاية ديلاوير أو ولاية تكساس او حتى البيئة القانونية في دبي إذا ظل رهينًا للتقاضي العام، ولا يمكن تحسين بيئة الاستثمار إلا بإعادة هيكلة التشريعات لتنسجم مع ما تتطلبه الحوكمة الحديثة.

ينبغي أن يبدأ الإصلاح القانوني بإدخال نصوص محددة في قانون الشركات الأردني تضمن الحماية القانونية للإدارة، وفقًا لمفهوم “حكم الإدارة” المعروف في الأنظمة المقارنة، مع ضمان أن تلك الحماية لا تمنع رقابة القضاء على حالات سوء النية أو الكسب غير المشروع.

كما أن من الضروري أن يتم النص صراحة على إنشاء محكمة اقتصادية مستقلة عن القضاء النظامي، تمتلك صلاحية إصدار آراء استشارية بناءً على طلب الشركات، خصوصًا في الصفقات الكبرى أو الإجراءات التي تمس هيكلة رأس المال أو منح الحوافز.

وفي ضوء التجربة الأمريكية ومنعاً من حدوث موجهة هجرة للشركات الأردنية JOExit لا قدر الله، فإن على المشرع وأجهزة السلطة التنفيذية العمل بصورة مشتركة وسريعة لضمان إيجاد بيئة أكثر أريحية للمستثمر، ولا شك في ان حماية الاستثمار تتطلب بعض البذل والمزيد من جهود الرقابة الساكنة، فاستثمارات ودعاوى قضائية أفضل من حماية كاملة بلا استثمار.

وعليه، فإنني اقترح على المشرع واوصي له بضرورة تعديل نص المادة (157) من قانون الشركات الأردني رقم (22) لسنة 1997 وتعديلاته وضمن الأحكام الخاصة بمسؤولية مجلس الإدارة عبر إضافة فقرة جديدة الى المادة على النحو التالي او استبدال ذات المادة بنص مشابه لما يلي:

“على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر، يتمتع أعضاء مجلس الإدارة بحصانة تقديرية في قراراتهم الإدارية والتجارية وفق مبدأ حكم الإدارة، ولا يكونون مسؤولين عن الأضرار الناشئة عن قراراتهم إلا إذا ثبت أن القرار قد صدر عن سوء نية صريح أو إهمال جسيم أو كان محصلة اتفاق تواطئي للإضرار بالشركة أو المساهمين.”

كما يمكن تضمين مادة تنص على إنشاء دائرة استشارية داخل المحكمة الاقتصادية المقترحة، تمنح الشركات حق الحصول على رأي قضائي قبل تنفيذ أي إجراء ذي أثر مالي أو إداري كبير، إضافة الى اجراء تعديلات على صلاحية هيئة النزاهة ومكافحة الفساد في الرقابة على أعمال الشركات المساهمة العامة غير المملوكة للحكومة.

 

ختاماً، ان القياس بالتجربة الامريكية تكشف أن السباق بين الولايات ليس مجرد تنافس في الضرائب أو القوانين الشكلية، بل في بناء منظومات قانونية كاملة تحترم حقوق المستثمرين دون أن تجعل من الإدارة هدفًا دائمًا لدعاوى عشوائية او سلطات انتقائية من قبل مطبقي القانون ضمن السلطة التنفيذية.

لقد نجحت دولة الامارات العربية تماماً في هذه المهمة وأصبحت ركناً عالمياً هاماً للاستثمار بعد ان استفادت من هذه التجارب العالمية وطورت عليها ببصمة خاصة تناسب البيئة المحلية للإمارات، الأردن اليوم بحاجة إلى خطوة مماثلة، تبدأ من تعديل قانون الشركات بتعديلات حقيقية، وتمر عبر تحديث بنية المحاكم، ولا تنتهي إلا بإعادة تعريف العلاقة بين المساهمين والإدارة ضمن إطار قانوني يوفر الأمان للطرفين.


ضع تعليقك

جميع الحقوق محفوظة ل : مدونة المحامي محمد عماوي القانونية . © 2025